الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
مختصر فيما [يحل من الطلاق ويحرم] وهل يلزم المحرم؟ أو لا يلزم؟ فنقول: الطلاق منه ما هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، ومنه ما ليس بمحرم. فالطلاق المباح ـ باتفاق العلماء ـ: هو أن يطلق الرجل /امرأته طلقة واحدة، إذا طهرت من حيضتها، بعد أن تغتسل وقبل أن يطأها، ثم يدعها فلا يطلقها حتى تنقضي عدتها. وهذا الطلاق يسمى [طلاق السنة]. فإن أراد أن يرتجعها في العدة فله ذلك بدون رضاها ولا رضا وليها، ولا مهر جديد. وإن تركها حتى تقضي العدة، فعليه أن يسرحها بإحسان، فقد بانت منه. فإن أراد أن يتزوجها بعد انقضاء العدة جاز له ذلك، لكن يكون بعقد؛ كما لو تزوجها إبتداءً أو تزوجها غيره ثم ارتجعها في العدة، أو تزوجها بعد العدة وأراد أن يطلقها؛ فإنه يطلقها كما تقدم. ثم إذا ارتجعها، أو تزوجها مرة ثانية، وأراد أن يطلقها، فإنه يطلقها كما تقدم، فإذا طلقها الطلقة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، كما حرم الله ذلك ورسوله، وحينئذ فلا تباح له إلا بعد أن يتزوجها غيره، النكاح المعروف الذي يفعله الناس إذا كان الرجل راغبًا في نكاح المرأة ثم يفارقها. فأما إن تزوجها بقصد أن يحلها لغيره، فإنه محرم عند أكثر العلماء، كما نقل عن الصحابة و التابعين لهم بإحسان، وغيرهم، وكما دلت على ذلك النصوص النبوية، والأدلة الشرعية. ومن العلماء من رخص في ذلك، كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع. /وإن كانت المرأة مما لا تحيض لصغرها أو كبرها؛ فإنه يطلقها متى شاء، سواء كان وطئها أو لم يكن يطؤها؛ فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر. ففي أي وقت طلقها لعدتها، فإنها لا تعتد بقروء، ولا بحمل، لكن من العلماء من يسمى هذا [طلاق سنة]، ومنهم من لا يسمه [طلاق سنة] ولا [بدعة] وإن طلقها في الحيض، أو طلقها بعد أن وطئها وقبل أن يتبين حملها: فهذا الطلاق محرم، ويسمى [طلاق البدعة] وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع. وإن كان قد تبين حملها، وأراد أن يطلقها فله أن يطلقها. وهل يسمى هذا طلاق سنة؟ أو لا يسمى طلاق سنة، ولا بدعة؟ فيه نزاع لفظي. وهذا [الطلاق المحرم] في الحيض، وبعد الوطء وقبل تبين الحمل هل يقع؟ أو لا يقع؟ سواء كانت واحدة أو ثلاثًا؟ فيه قولان معروفان للسلف والخلف. وإن طلقها ثلاثًا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات؛ مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو أنت طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق. أو يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق. أو يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو عشر طلقات أو مائة طلقة، أو /ألف طلقة، ونحو ذلك من العبارات، فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها. ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها. وفيه قول رابع محدث مبتدع: أحدها: أنه طلاق مباح لازم، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه. اختارها الخرقي. الثاني: أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك. وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه. اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف: من الصحابة، والتابعين. والذي قبله منقول عن بعضهم. الثالث: أنه محرم، ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروي عن على وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم؛ مثل طاووس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروي ذلك عن أبي جعفر محمد بن على بن الحسين وابنه جعفر بن محمد؛ ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل. /وأما القول الرابع الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة، فلا يعرف عن أحد من السلف، وهو: أنه لا يلزمه شيء. والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة؛ فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي، لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعًا، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقًا بائنًا، ولكن إذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فإذا انقضت عدتها بانت منه. فالطلاق ثلاثة أنواع باتفاق المسلمين: الطلاق الرجعي: وهو الذي يمكنه أن يرتجعها فيه بغير اختيارها، وإذا مات أحدهما في العدة ورثه الآخر. والطلاق البائن: وهو ما يبقي به خاطبًا من الخطاب، لا تباح له إلا بعقد جديد. والطلاق المحرم لها: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وهو فيما إذا طلقها ثلاث تطليقات، كما أذن الله ورسوله، وهو: أن يطلقها ثم يرتجعها في العدة. أو يتزوجها ثم يطلقها ثم يرتجعها. أو يتزوجها ثم يطلقها الطلقة الثالثة. فهذا الطلاق المحرم لها حتى تنكح زوجًا غيره باتفاق العلماء. وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله في المدخول بها طلاق بائن يحسب من الثلاث. ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث؛ كالإمام أحمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وابن المنذر، / وداود، وابن خزيمة وغيرهم: أن [الخلع] فسخ للنكاح، وفرقة بائنة بين الزوجين، لا يحسب من الثلاث. وهذا هو الثابت عن الصحابة؛ كابن عباس. وكذلك ثبت عن عثمان بن عفان، وابن عباس وغيرهما: أن المختلعة ليس عليها أن تعتد بثلاثة قروء، وإنما عليها أن تعتد بحيضة، وهو قول إسحاق بن راهويه؛ وابن المنذر وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وروي في ذلك أحاديث معروفة في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يصدق بعضها بعضاً، وبين أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: روي عن طائفة من الصحابة أنهم جعلوا الخلع طلاقًا، لكن ضعفه أئمة الحديث؛ كالإمام أحمد بن حنبل، وابن خزيمة، وابن المنذر، والبيهقي، وغيرهم. كما روي في ذلك عنهم. و[الخلع] أن تبذل المرأة عوضًا لزوجها؛ ليفارقها، قال الله تعالى: وأما المطلقة قبل الدخول، فقد قال الله تعالى: ولا نعرف أن أحدًا طلق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه النبي صلى الله عليه وسلم بالثلاث، ولا روي في ذلك حديث صحيح ولا حسن، ولا نقل أهل الكتب المعتد عليها في ذلك شيء اً، /بل رويت في ذلك أحاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث، بل موضوعة، بل الذي في صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية لمسلم وغيره عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم، وفي رواية: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في زمن عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. وروى الإمام أحمد في مسنده: حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولي ابن عباس، عن ابن عباس أنه قال: طلق ركانة بن عبد يزيد ـ أخو بني المطلب ـ امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها؟). قال: طلقتها ثلاثًا. قال: فقال: (في مجلس واحد؟). قال: نعم. قال: (فإنما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت). قال: فرجعها. فكان ابن عباس يري أن الطلاق عند كل طهر. وقد أخرجه أبو عبد الله المقدسي في كتابه [المختارة] الذي هو أصح من [صحيح الحاكم]. وهكذا روى أبو داود وغيره من حديث. . . /وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [في مجلس واحد] مفهومه: أنه لو لم يكن في مجلس واحد لم يكن الأمر كذلك؛ وذلك لأنها لو كانت في مجالس لأمكن في العادة أن يكون قد ارتجعها؛ فإنها عنده، والطلاق بعد الرجعة يقع. والمفهوم لا عموم له في جانب المسكوت عنه، بل قد يكون فيه تفصيل، كقوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) أو (لم ينجسه شيء)، وهو إذا بلغ قلتين فقد يحمل الخبث، وقد لا يحمله. وقوله: (في الإبل السائمة الزكاة) وهي إذا لم تكن سائمة قد يكون فيها الزكاة ـ زكاة التجارة ـ وقد لا يكون فيها، وكذلك قوله: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبة) ومن لم يقمها فقد يغفر له بسبب آخر. وكقوله: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقوله تعالى: وقد روي أبو داود وغيره أن ركانة طلق امرأته البتة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الله ما أردت إلا واحدة؟) فقال: ما أردت بها إلا واحدة. /فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده فقال: حديث [البتة] أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأن أهل بيته أعلم، لكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه فيه؛ كالإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهما وأبي عبيد، وأبي محمد بن حزم، وغيره، ضعفوا حديث البتة، وبينوا أن رواته قوم مجاهيل؛ لم تعرف عدالتهم وضبطهم. وأحمد أثبت حديث الثلاث، وبين أنه الصواب مثل قوله: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة. وقال أيضاً: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا. وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثًا طلق البتة. وأحمد إنما عدل عن حديث ابن عباس؛ لأنه كان يري أن الثلاث جائزة، موافقة للشافعي. فأمكن أن يقال: حديث ركانة منسوخ. ثم لما رجع عن ذلك، وتبين أنه ليس في القرآن والسنة طلاق مباح إلا الرجعي عدل عن حديث ابن عباس؛ لأنه أفتى بخلافه، وهذا علة عنده في إحدى الروايتين عنه، لكن الرواية الأخرى التي عليها أصحابه أنه ليس بعلة، فيلزم أن يكون مذهبه العمل بحديث ابن عباس. وقد بين في غير هذا الموضع أعذار الأئمة المجتهدين ـ رضي الله عنهم ـ الذين ألزموا من أوقع جملة الثلاث بها مثل عمر، رضي الله عنه، فإنه لما رأى الناس قد أكثروا مما حرمه الله عليهم من جمع الثلاث، ولا ينتهون عن ذلك إلا بعقوبة: /رأي عقوبتهم بإلزامها؛ لئلا يفعلوها، إما من نوع التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق الرأس، وينفي، وكما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا عن الاجتماع بنسائهم. وإما ظنًا أن جعلها واحدة كان مشروطًا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى مثل ذلك في متعة الحج، إما مطلقًا، وإما متعة الفسخ. والإلزام بالفرقة لمن لم يقم بالواجب، مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن تارة يكون حقًا للمرأة، كما في العنين والمولي، عند جمهور العلماء، والعاجز عن النفقة عند من يقول به. وتارة يقال: إنه حق لله، كما في تفريق الحكمين بين الزوجين عند الأكثرين إذا لم يجعلا وكيلين، وكما في وقوع الطلاق بالمولي عند من يقول بذلك من السلف والخلف إذا لم يف في مدة التربص، وكما قال من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره: إنهما إذا تطاوعا في الإتيان في الدبر فرق بينهما، والأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما رآه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه، كما قال أحمد وغيره، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يطيع أباه، لما أمره أبوه بطلاق امرأته. فالإلزام إما من الشارع، وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب. هو من موارد الاجتهاد. فلما كان الناس إذا لم يلزموا بالثلاث يفعلون المحرم رأي عمر إلزامهم بذلك؛ لأنهم لم يلزموا طاعة الله ورسوله مع بقاء النكاح؛ ولكن كثير من الصحابة /والتابعين نازعوا من قال ذلك؛ إما لأنهم لم يروا التعزير بمثل ذلك. وإما لأن الشارع لم يعاقب بمثل ذلك. وهذا فيمن يستحق العقوبة. وأما من لا يستحقها بجهل أو تأويل فلا وجه لإلزامه بالثلاث. وهذا شرع شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، كما شرع نظائره لم يخصه؛ ولهذا قال من قال من السلف والخلف: إن ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم في فسخ الحج إلى العمرة ـ التمتع كما أمر به أصحابه في حجة الوداع ـ هو شرع مطلق، كما أخبر به لما سئل: أعمرتنا هذه لعامنا هذا؟ أم للأبد؟ فقال: (لا، بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). وإن قول من قال: إنما شرع للشيوخ لمعني يختص بهم مثل بيان جواز العمرة في أشهر الحج، قول فاسد؛ لوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع. وقد قال تعالى: ولهذا اتفق المسلمون على أن ما حرمه الله من نكاح المحارم ومن النكاح في العدة ونحو ذلك، يقع باطلاً غير لازم، وكذلك ما حرمه الله من بيع المحرمات؛ كالخمر، والخنزير، والميتة. وهذا بخلاف ما كان محرم الجنس؛ كالظهار، والقذف، والكذب، وشهادة الزور، ونحو ذلك. فإن هذا يستحق من فعله العقوبة بما شرعه الله من الأحكام؛ فإنه لا يكون تارة حلالاً وتارة حرامًا، حتى يكون تارة صحيحًا وتارة فاسدًا. وما كان محرمًا من أحد الجانبين مباحاً من الجانب الآخر ـ كافتداء الأسير، واشتراء المجحود عتقه، ورشوة الظالم لدفع ظلمه أو لبذل الحق الواجب، وكاشتراء الإنسان المصراة وما دلس عيبه، وإعطاء المؤلفة قلوبهم ليفعل الواجب أو ليترك المحرم، وكبيع الجالب لمن تلقي منه ونحو ذلك ـ فإن المظلوم يباح له فعله. وله أن يفسخ العقد، وله أن يمضيه، بخلاف الظالم فإن ما فعله ليس بلازم. والطلاق هو مما أباحه الله تارة، وحرمه أخري. فإذا فعل على الوجه الذي حرمه الله ورسوله لم يكن لازمًا نافذًا كما يلزم ما أحله الله ورسوله، كما في الصحيحين عن عائشةـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه /قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقد قال تعالى: قال تعالى: وفي الصحيح والسنن والمسانيد عن عبد الله بن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض. فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء بعد أمسكها، وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)، وفي رواية في الصحيح: (أنه أمره أن يطلقها طاهرًا أو حاملاً)، وفي رواية في الصحيح: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: وعن ابن عباس وغيره من الصحابة: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام. فأما اللذان هما حلال فأن يطلق امرأته طاهرًا في غير جماع، أو يطلقها حاملاً قد استبان حملها. وأما اللذان هما حرام فأن يطلقها حائضًا، أو يطلقها بعد الجماع لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا. ورواه الدارقطني وغيره. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له أن يطلقها إلا إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها؛ وهذا هو الطلاق للعدة، أي: لاستقبال العدة. فإن ذلك الطهر أو العدة، فإن طلقها قبل العدة يكون قد طلقها قبل الوقت الذي أذن الله فيه، ويكون قد طول عليها التربص، وطلقها من غير حاجة به إلى /طلاقها. والطلاق في الأصل مما يبغضه الله، وهو أبغض الحلال إلى الله، وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة؛ فلهذا حرمها بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره عقوبة له؛ لينتهي الإنسان عن إكثار الطلاق. فإذا طلقها لم تزل في العدة متربصة ثلاثة قروء، وهو مالك لها يرثها وترثه، وليس له فائدة في تعجيل الطلاق قبل وقته، كما لا فائدة في مسابقة الإمام؛ ولهذا لا يعتد له بما فعله قبل الإمام، بل تبطل صلاته إذا تعمد ذلك في أحد قولي العلماء، وهو لا يزال معه في الصلاة حتى يسلم. ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع في الحيض؛ لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق، بل فرقة بائنة، وهو في أحد قوليهم تستبرأ بحيضة لا عدة عليها، وهذه إحدى الروايتين عند أحمد؛ ولأنها تملك نفسها بالاختلاع فلهما فائدة في تعجيل الإبانة لرفع الشر الذي بينهما، بخلاف الطلاق الرجعي فإنه لا فائدة في تعجيله قبل وقته، بل ذلك شر بلا خير. وقد قيل: إنه طلاق في وقت لا يرغب فيها، وقد لا يكون محتاجاً إليه، بخلاف الطلاق وقت الرغبة فإنه لا يكون إلا عن حاجة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: (مره فليراجعها)مما تنازع العلماء فيه في مراد النبي صلى الله عليه وسلم: ففهم منه طائفة من العلماء: أن الطلاق قد لزمه، فأمره أن يرتجعها، ثم يطلقها في الطهر إن شاء. وتنازع /هؤلاء: الارتجاع واجب، أو مستحب؟ وهل له أن يرتجعها في الطهر الأول أو الثاني؟ وفي حكمة هذا النهي أقوال، ذكرناها وذكرنا مأخذها في غير هذا الموضع. وفهم طائفة أخري: أن الطلاق لم يقع، ولكنه لما فارقها ببدنه، كما جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه واعتزلته ببدنها، فقال لعمر: (مره فليراجعها)، ولم يقل: فليرتجعها. و (المراجعة) مفاعلة من الجانبين، أي ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانا؛ لأن الطلاق لم يلزمه، فإذا جاء الوقت الذي أباح الله فيه الطلاق طلقها حينئذ إن شاء الله. قال هؤلاء: ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة، بل فيه مضرة عليهما؛ فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع، وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثير الطلاق، وتطويل العدة، وتعذيب الزوجين جميعًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليه أن يطأها قبل الطلاق، بل إذا وطئها لم يحل له أن يطلقها حتى يتبين حملها، أو تطهر الطهر الثاني. وقد يكون زاهدًا فيها يكره أن يطأها فتعلق منه، فكيف يجب عليه وطؤها؟ ! ولهذا لم يوجب الوطء أحد من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين، ولكن أخر الطلاق إلى الطهر الثاني. ولولا أنه طلقها أولاً لكان له أن يطلقها في الطهر الأول؛ لأنه لو أبيح له الطلاق في /الطهر الأول لم يكن في إمساكها فائدة مقصودة بالنكاح إذا كان لا يمسكها إلا لأجل الطلاق؛ فإنه لو أراد أن يطلقها في الطهر الأول لم يحصل إلا زيادة ضرر عليهما، والشارع لا يأمر بذلك، فإذا كان ممتنعًا من طلاقها في الطهر الأول ليكون متمكنًا من الوطء الذي لا يعقبه طلاق؛ فإن لم يطأها، أو وطئها أو حاضت بعد ذلك، فله أن يطلقها؛ ولأنه إذا امتنع من وطئها في ذلك الطهر ثم طلقها في الطهر الثاني، دل على أنه محتاج إلى طلاقها؛ لأنه لا رغبة له فيها، إذ لو كانت له فيها رغبة لجامعها في الطهر الأول. قالوا: لأنه لم يأمر ابن عمر بالإشهاد على الرجعة، كما أمر الله ورسوله، ولو كان الطلاق قد وقع وهو يرتجعها لأمر بالإشهاد؛ ولأن الله تعالى لما ذكر الطلاق في غير آية لم يأمر أحداً بالرجعة عقيب الطلاق؛ بل قال: وأيضًا، فلو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله، وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق /بعدها، والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله؛ فإنه إن كان راغبًا في المرأة فله أن يرتجعها، وإن كان راغبًا عنها فليس له أن يرتجعها، فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية، بل زيادة مفسدة، ويجب تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد، والله ورسوله إنما نهي عن الطلاق البدعي لمنع الفساد، فكيف يأمر بما يستلزم زيادة الفساد؟ ! وقول الطائفة الثانية أشبه بالأصول والنصوص: فإن هذا القول متناقض؛ إذ الأصل الذي عليه السلف والفقهاء: أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء؛ لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم. وأيضًا، فإن لم يكن ذلك دليلاً على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد، فإن الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد، قالوا: نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطًا أو مانعًا ونحو ذلك. وقوله /هذا صحيح. وليس بصحيح من خطاب الوضع والإخبار، ومعلوم أنه ليس في كلام الله ورسوله. وهذه العبارات مثل قوله: الطهارة شرط في الصلاة، والكفر مانع من صحة الصلاة، وهذا العقد، وهذه العبادة لا تصح، ونحو ذلك، بل إنما في كلامه الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وفي نفي القبول والصلاح، كقوله: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وقوله: [هذا لا يصلح] وفي كلامه: [إن الله يكره كذا] وفي كلامه: الوعد، ونحو ذلك من العبارات فلم نستفد الصحة والفساد إلا بما ذكره، وهو لا يلزم أن يكون الشارع بين ذلك، وهذا مما يعلم فساده قطعًا. وأيضًا، فالشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة، أو الراجحة، ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد، وجعله معدومًا. فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازمًا نافذًا كالحلال لكان ذلك إلزاماً منه بالفساد الذي قصد عدمه. فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به، وهذا تناقض ينزه عنه الشارع صلى الله عليه وسلم. وقد قال بعض هؤلاء: إنه إنما حرم الطلاق الثلاث لئلا يندم المطلق، دل على لزوم الندم له إذا فعله، وهذا يقتضي صحته. /فيقال له: هذا يتضمن أن كل ما نهي الله عنه يكون صحيحًا، كالجمع بين المرأة وعمتها؛ لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم. فيقال: إن كان ما قاله هذا صحيحًا هنا دليل على صحة العقد: إذ لو كان فاسدًا لم تحصل القطيعة، وهذا جهل، وذلك أن الشارع بين حكمته في منعه مما نهي عنه، وأنه لو أباحه للزم الفساد، فقوله تعالى: وقول القائل: لو كان الطلاق غير لازم لم يحصل الفساد. فيقال: هذا هو مقصود الشارع صلى الله عليه وسلم، فنهي عنه، وحكم ببطلانه، ليزول الفساد، ولولا ذلك لفعله الناس واعتقدوا صحته فيلزم الفساد. وهذا نظير قول من يقول: النهي عن الشيء يدل على أنه مقصود، وأنه شرعي، وأنه يسمى بيعاً، ونكاحًا، وصومًا. كما يقولون في نهيه عن نكاح الشغار، ولعنه المحلل والمحلل له، ونهيه عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، /ونهيه عن صوم يوم العيدين، ونحو ذلك. فيقال: أما تصوره حسًا فلا ريب فيه. وهذا كنهيه عن نكاح الأمهات والبنات، وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام، كما في الصحيحين عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال: (لا، هو حرام)، ثم قال: (قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها)، فتسميته لهذا نكاحًا وبيعًا لم يمنع أن يكون فاسدًا باطلاً، بل دل على إمكانه حسًا. وقول القائل: إنه شرعي. إن أراد أنه يسمى بما أسماه به الشارع، فهذا صحيح. وإن أراد أن الله أذن فيه، فهذا خلاف النص، والإجماع. وإن أراد أنه رتب عليه حكمه، وجعله يحصل المقصود، ويلزم الناس حكمه، كما في المباح، فهذا باطل بالإجماع في أكثر الصور التي هي من موارد النزاع، ولا يمكنه أن يدعي ذلك في صورة مجمع عليها؛ فإن أكثر ما يحتج به هؤلاء بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الطلاق في الحيض، ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع، فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم؛ لا بنص، ولا إجماع. وكذلك [المحلل] الملعون لعنه؛ لأنه قصد التحليل للأول بعقده، لا لأنه أحلها في نفس الأمر، فإنه لو تزوجها بنكاح رغبة لكان قد أحلها بالإجماع، /وهذا غير ملعون بالإجماع، فعلم أن اللعنة لمن قصد التحليل، وعلم أن الملعون لم يحللها في نفس الأمر، ودلت اللعنة على تحريم فعله، والمنازع يقول فعله مباح. فتبين أنه لا حجة معهم، بل الصواب مع السلف وأئمة الفقهاء، ومن خرج عن هذا الأصل من العلماء المشهورين في بعض المواضع، فإن لم يكن له جواب صحيح وإلا فقد تناقض، كما تناقض في مواضع غير هذه. والأصول التي لا تناقض فيها ما أثبت بنص أو إجماع. وما سوي ذلك فالتناقض موجود فيه، وليس هو حجة على أحد. والقياس الصحيح الذي لا يتناقض هو موافق للنص والإجماع، بل ولابد أنم يكون النص قد دل على الحكم، كما قد بسط في موضع آخر. وهذا معني العصمة؛ فإن كلام المعصوم لا يتناقض، ولا نزاع بين المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم فيما بلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين. وكذلك الأمة أيضًا معصومة أن تجتمع على ضلالة، بخلاف ما سوي ذلك؛ ولهذا كان مذهب أئمة الدين أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه الذي فرض الله على جميع الخلائق الإيمان به وطاعته، وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه، وهو الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر، وأهل الجنة وأهل النار، والهدي والضلال والغي والرشاد. فالمؤمنون أهل الجنة وأهل الهدي والرشاد، هم متبعون. والكفار أهل النار، وأهل الغي، والضلال، هم الذين لم يتبعوه. /ومن آمن به باطنًا وظاهرًا، واجتهد في متابعته: فهو من المؤمنين السعداء، وإن كان قد أخطأ وغلط في بعض ما جاء به، فلم يبلغه أو لم يفهمه، قال الله تعالى عن المؤمنين: فهكذا إذا خص الله أحد العالمين بعلم أمر وفهمه، لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء، بل كل من اتقي الله ما استطاع فهو من أولياء الله المتقين، وإن كان قد خفي عليه من الدين ما فهمه غيره، وقد قال واثلة بن الأسقع ـ وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من طلب علمًا فأدركه فله أجران، ومن طلب علمًا فلم يدركه فله أجر). وهذا يوافق ما في الصحيح عن عمرو بن العاص، وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر). وهذه الأصول لبسطها موضع آخر. وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا؛ لأن الطلاق المحرم مما يقول فيه كثير من الناس: إنه لازم. والسلف أئمة الفقهاء والجمهور يسلمون: أن النهي يقتضي /الفساد، ولا يذكرون في الاعتذار عن هذه الصورة فرقًا صحيحًا. وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوه في أن النهي يقتضي الفساد. واحتج بما سلموه له من الصور، وهذه حجة جدلية لا تفيد العلم بصحة قوله، وإنما تفيد أن منازعيه أخطؤوا: إما في صور النقص، وإما في محل النزاع. وخطؤهم في إحداهما لا يوجب أن يكون الخطأ في محل النزع، بل هذا الأصل أصل عظيم عليه مدار كثير من الأحكام الشرعية، فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا إجماع، بل الأصول والنصوص لا توافق، بل تناقض قولهم. ومن تدبر الكتاب والسنة تبين له أن الله لم يشرع الطلاق المحرم جملة قط، وأما الطلاق البائن فإنه شرعه قبل الدخول، وبعد انقضاء العدة. وطائفة من العلماء تقول لمن لم يجعل الثلاث المجموعة إلا واحدة: أنتم خالفتم عمر، وقد استقر الأمر على التزام ذلك في زمن عمر، وبعضهم يجعل ذلك إجماعًا، فيقول لهم: أنتم خالفتم عمر في الأمر المشهور عنه الذي اتفق عليه الصحابة، بل وفي الأمر الذي معه فيه الكتاب والسنة، فإن منكم من يجوز التحليل. وقد ثبت عن عمر أنه قال: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقد اتفق الصحابة على النهي عنه، مثل عثمان، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه أعاد المرأة إلى زوجها بنكاح تحليل. وعمر وسائر الصحابة معهم الكتاب /والسنة كلعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل و المحلل له، وقد خالفهم من خالفهم في ذلك اجتهادًا، والله يرضى عن جميع علماء المسلمين. وأيضًا، فقد ثبت عن عمر أنه كان يقول في الخلية والبرية ونحو ذلك: إنها طلقة رجعية. وأكثرهم يخالفون عمر في ذلك. وقد ثبت عن عمر أنه خير المفقود إذا رجع فوجد امرأته قد تزوجت، خيره بين امرأته وبين المهر. وهذا ـ أيضًا ـ معروف عن غيره من الصحابة، كعثمان، وعلى، وذكره أحمد عن ثمانية من الصحابة، وقال: إلى أي شيء يذهب الذي يخالف هؤلاء؟ ! ومع هذا، فأكثرهم يخالفون عمر وسائر الصحابة في ذلك، ومنهم من ينقض حكم من حكم به. وعمر والصحابة جعلوا الأرض المفتوحة عنوة، كأرض الشام، ومصر، والعراق، وخراسان، والمغرب، فيء ا للمسلمين، ولم يقسم عمر ولا عثمان أرضًا فتحها عنوة، ولم يستطب عمر أنفس جميع الغانمين في هذه الأرضين، وإن ظن بعض العلماء أنهم استطابوا أنفسهم في السواد، بل طلب منهم بلال والزبير وغيرهما قسمة أرض العنوة فلم يجبهم، ومع هذا فطائفة منهم يخالف عمر والصحابة في مثل هذا الأمر العظيم الذي استقر الأمر عليه ـ من زمنهم، بل ينقض حكم من حكم بحكمهم ـ أيضًا ـ فأبو بكر وعمر وعثمان وعلى لم يخمسوا قط مال فيء ولا خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا جعلوا خمس الغنيمة خمسة أقسام متساوية، ومع هذا، فكثير منهم يخالف ذلك. ونظائر هذا متعددة. /والأصل الذي اتفق عليه علماء المسلمين، أن ما تنازعوا فيه وجب رده إلى الله والرسول، كما قال تعالى: ولهذا لما رأى عمر ـ رضي الله عنه ـ أن المبتوتة لها السكنى والنفقة فظن أن القرآن يدل عليه نازعه أكثر الصحابة، فمنهم من قال: لها السكنى فقط، ومنهم من قال: لا نفقة لها ولا سكني. وكان من هؤلاء ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس، وهي التي روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لك نفقة ولا سكني)، فلما احتجوا عليها بحجة عمر، وهي قوله تعالى: وكذلك ـ أيضًا ـ في الطلاق لما قال تعالى: وقد ظن بعض الناس أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع. وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به، فإن الطلاق أذن فيه أولاً، ولم يأمر فيه /بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال: وأما النكاح فلابد من التمييز بينه وبين السفاح واتخاذ الأخدان، كما أمر الله تعالى؛ ولهذا مضت السنة بإعلانه، فلا يجوز أن يكون كالسفاح مكتوما، لكن: هل الواجب مجرد الإشهاد أو مجرد الإعلان وإن لم يكن إشهاد، أو يكفي أيهما كان؟ هذا فيه نزاع بين العلماء، كما قد ذكر في موضعه. وقال الله تعالى: /ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: ولا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا على [نكاح تحليل] ظاهر تعرفه الشهود والمرأة والأولياء ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين أنهم أعادوا المرأة على زوجها بنكاح تحليل، فإنهم إنما كانوا يطلقون في الغالب طلاق السنة. ولم يكونوا يحلفون بالطلاق؛ ولهذا لم ينقل عن الصحابة نقل خاص في الحلف، وإنما نقل عنهم الكلام في إيقاع الطلاق لا في الحلف به. والفرق ظاهر بين الطلاق وبين الحلف به، كما يعرف الفرق بين النذر وبين الحلف بالنذر، فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: إن شفي الله مرضي، أو قضي ديني، أو خلصني من هذه الشدة، فلله على أن اتصدق بألف درهم. أو أصوم شهرًا، أو أعتق رقبة، فهذا تعليق نذر يجب عليه الوفاء به بالكتاب والسنة والإجماع. وإذا علق النذر على وجه اليمين فقال: إن سافرت معكم، إن زوجت فلانا، أن أضرب فلانا. إن لم أسافر من عندكم، فعلى الحج. أو: فمالي صدقة. أو: فعلى عتق. فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء هو حالف بالنذر، ليس بناذر، فإذا لم يف بما التزمه أجزأه كفارة يمين، وكذلك أفتى الصحابة فيمن قال: إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر. أنه يمين يجزيه فيها كفارة اليمين، وكذلك قال كثير من التابعين في هذا كله لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة ـ وهو التحليف بالطلاق، والعتاق، والتحليف باسم الله، وصدقة المال. وقيل: كان فيها التحليف بالحج ـ /تكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم في هذه الأيمان، وتكلموا في بعضها على ذلك. فمنهم من قال: إذا حنث بها لزمه ما التزمه. ومنهم من قال: لا يلزمه إلا الطلاق، والعتاق. ومنهم من قال: بل هذا جنس أيمان أهل الشرك، لا يلزم بها شيء. ومنهم من قال: بل هي من أيمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم في سائر أيمان المسلمين. واتبع هؤلاء ما نقل في هذا الجنس عن الصحابة، وما دل عليه الكتاب والسنة، كما بسط في موضع آخر. والمقصود هنا: أنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لم تكن امرأة ترد إلى زوجها بنكاح تحليل، وكان إنما يفعل سرا؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه]، [ولعن المحلل، والمحلل له]. قال الترمذي: حديث صحيح. ولعن صلى الله عليه وسلم في الربا: الآخذ، والمعطي، والشاهدين، والكاتب؛ لأنه دين يكتب ويشهد عليه، ولعن في التحليل: المحلل، والمحلل له، ولم يلعن الشاهدين والكاتب؛ لأنه لم يكن على عهده تكتب الصداقات في كتاب، فإنهم كانوا يجعلون الصداق في العادة العامة قبل الدخول، ولا يبقي دينار في ذمة الزوج، ولا يحتاج إلى كتاب وشهود، وكان المحلل يكتم ذلك هو والزوج المحلل له. والمرأة والأولياء والشهود لا يدرون بذلك. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له؛ إذ كانوا هم الذين فعلوا المحرم، دون هؤلاء. والتحليل لم يكونوا يحتاجون إليه في الأمر الغالب؛ إذ كان الرجل إنما يقع منه الطلاق الثلاث إذا طلق بعد رجعة أو عقد فلا يندم بعد الثلاث إلا نادر من الناس، وكان /يكون ذلك بعد عصيانه وتعديه لحدود الله فيستحق العقوبة، فيلعن من يقصد تحليل المرأة له، ويلعن هؤلاء ـ أيضًا ـ لأنهما تعاونا على الإثم والعدوان. فلما حدث الحلف بالطلاق واعتقد كثير من الفقهاء. أن الحانث يلزمه ما ألزمه نفسه، ولا تجزيه كفارة يمين، واعتقد كثير منهم أن الطلاق المحرم يلزم، واعتقد كثير منهم أن جمع الثلاث ليس بمحرم، واعتقد كثير منهم أن طلاق السكران يقع، واعتقد كثير منهم أن طلاق المكره يقع. وكان بعض هذه الأقوال مما تنازع فيه الصحابة، وبعضها مما قيل بعدهم، كثر اعتقاد الناس لوقوع الطلاق، مع ما يقع من الضرر العظيم والفساد في الدين والدنيا بمفارقة الرجل امرأته، فصار الملزمون بالطلاق في هذه المواضع المتنازع فيها حزبين. حزبا اتبعوا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تحريم التحليل، فحرموا هذا مع تحريمهم لما لم يحرمه الرسول صلى الله عليه وسلم من تلك الصور، فصار في قولهم من الأغلال والآصار والحرج العظيم المفضي إلى مفاسد عظيمة في الدين والدنيا أمور. منها: ردة بعض الناس عن الإسلام لما أفتى بلزوم ما التزمه. ومنها سفك الدم المعصوم. ومنها زوال العقل. ومنها العداوة بين الناس. ومنها تنقيص شريعة الإسلام، إلى كثير من الآثام، إلى غير ذلك من الأمور العظام. وحزبا رأوا أن يزيلوا ذلك الحرج العظيم بأنواع من الحيل التي بها تعود المرأة إلى زوجها. /وكان مما أحدث أولاً نكاح التحليل. ورأي طائفة من العلماء أن فاعله يثاب؛ لما رأي في ذلك من إزالة تلك المفاسد بإعادة المرأة إلى زوجها، وكان هذا حيلة في جميع الصور لرفع وقوع الطلاق، ثم أحدث في الأيمان حيل أخري. فأحدث أولاً الاحتيال في لفظ اليمين، ثم أحدث الاحتيال بخلع اليمين، ثم أحدث الاحتيال بدور الطلاق، ثم أحدث الاحتيال بطلب إفساد النكاح. وقد أنكر جمهور السلف والعلماء وأئمتهم هذه الحيل وأمثالها، ورأوا أن في ذلك إبطال حكمة الشريعة، وإبطال حقائق الأيمان المودعة في آيات الله، وجعل ذلك من جنس المخادعة والاستهزاء بآيات الله، حتي قال أيوب السختياني في مثل هؤلاء: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه، لكان أهون على، ثم تسلط الكفار والمنافقون بهذه الأمور على القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلوا ذلك من أعظم ما يحتجون به على من آمن به ونصره وعزره، ومن أعظم ما يصدون به عن سبيل الله ويمنعون من أراد الإيمان به، ومن أعظم ما يمتنع الواحد منهم به عن الإيمان، كما أخبر من آمن منهم بذلك عن نفسه، وذكر أنه كان يتبين له محاسن الإسلام إلا ما كان من جنس التحليل فإنه الذي لا يجد فيه ما يشفي الغليل، وقد قال تعالى: وكل من خالف ما جاء به من الكتاب والحكمة من الأقوال المرجوحة، فهي من الأقوال المبتدعة التي أحسن أحوالها أن تكون من الشرع المنسوخ الذي رفعه الله بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، إن كان قائله من أفضل الأمة وأجلها، وهو في ذلك القول مجتهد قد اتقي الله ما استطاع، وهو مثاب على اجتهاده وتقواه، مغفور له خطؤه، فلا يلزم الرسول قول قاله غيره باجتهاده. وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر). وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول لمن بعثه أميرًا على سرية وجيش: (وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك). وهذا يوافق ما ثبت في الصحيح أن سعد بن معاذ لما حكمه النبي صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم، فنزلوا على حكمه، فأنزلهم على حكم سعد ابن معاذ لما طلب منهم حلفا وهم من الأنصار أن يحسن إليهم، وكان سعد بن معاذ خلاف ما يظن به بعض قومه، كان مقدما لرضي الله ورسوله على /رضي قومه؛ ولهذا لما مات اهتز له عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى حريمهم، وتقسم أموالهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك) وفي رواية: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات). والعلماء ورثة الأنبياء، وقد قال تعالى: ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول صلى الله عليه وسلم من خطئهم وخطأ غيرهم، كما قال عبد الله بن مسعود في المفوضة: أقول فيها برأيي. فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. وكذلك روي عن الصديق في الكلالة، وكذلك عن عمر في بعض الأمور، مع أنهم كانوا يصيبون فيما يقولونه على هذا الوجه حتي يوجد النص موافقا لاجتهادهم، كما وافق النص اجتهاد ابن مسعود وغيره، /وإنما كانوا أعلم بالله ورسوله، وبما يجب من تعظيم شرع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضيفوا إليه إلا ما علموه منه، وما أخطؤوا فيه ـ وإن كانوا مجتهدين ـ قالوا: إن الله ورسوله بريئان منه. وقد قال الله تعالى: ولهذا تجد المسائل التي تنازعت فيها الأمة على أقوال؛ وإنما القول الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم واحد منها، وسائرها إذا كان أهلها من أهل الاجتهاد أهل العلم والدين، فهم مطيعون لله ورسوله، مأجورون غير مأزورين، كما إذا خفيت جهة القبلة في السفر اجتهد كل قوم فصلوا إلى جهة من الجهات الأربع، فإن الكعبة ليست إلا في جهة واحدة منها وسائر المصلين مأجورين على صلاتهم حيث اتقوا ما استطاعوا. ومن آيات ما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا ذكر مع غيره على الوجه المبين ظهر النور والهدي على ما بعث به، وعلم أن القول الآخر دونه؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قال سبحانه وتعالى: ومن أمثال ذلك: ما تنازع المسلمون فيه من مسائل الطلاق، فإنك تجد الأقوال فيه [ثلاثة]: قول فيه آصار وأغلال، وقول فيه خداع واحتيال. وقول فيه علم واعتدال. وقول يتضمن نوعا من الظلم والاضطراب. وقول يتضمن نوعا من الظلم والفاحشة والعار، وقول يتضمن سبيل المهاجرين والأنصار. وتجدهم في مسائل الأيمان بالنذر، والطلاق والعتاق، على ثلاثة أقوال: قول يسقط أيمان المسلمين، ويجعلها بمنزلة أيمان المشركين. وقول يجعل الأيمان اللازمة ليس فيها كفارة ولا تحلة، كما كان شرع غير أهل القبلة. وقول يقيم حرمة أيمان أهل التوحيد والإيمان، ويفرق بينهما وبين أيمان أهل الشرك والأوثان، ويجعل فيها من الكفارة والتحليل ما جاء به النص والتنزيل واختص به أهل القرآن دون أهل التوراة والإنجيل. وهذا هو الشرع الذي جاء به خاتم المرسلين، وإمام المتقين، وأفضل الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
|